دليله قوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] ، أي : عاقبة.
قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، اختلف العلماء في نظم هذه الآية ، فقال قوم : الواو في قوله (وَالرَّاسِخُونَ) واو العطف ، يعني : أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) ، وهذا قول مجاهد والربيع ، وعلى هذا يكون قوله : (يَقُولُونَ) حالا معناه : والراسخون في العلم (١) قائلين آمنّا به ، هذا كقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الحشر : ٧] ، ثم قال : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحشر : ٨] ، إلى أن قال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر : ٩] ثم قال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] ، وهذا عطف على ما سبق ، ثم قال : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) [الحشر : ١٠] ، يعني : هم مع استحقاقهم للفيء يقولون : ربّنا اغفر لنا ، أي : قائلين على الحال ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه كان يقول في هذه الآية : إنّا من الراسخين في العلم ، وقال مجاهد : إنا ممن يعلم تأويله ، وذهب الأكثرون إلى أن الواو في قوله (وَالرَّاسِخُونَ) واو الاستئناف ، وتمّ الكلام عند قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وهو قول أبي بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم ، ورواية طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن وأكثر التابعين ، واختاره الكسائي والفراء والأخفش ، وقالوا : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، ويجوز أن يكون للقرآن (٢) تأويل استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، كما استأثر بعلم الساعة ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ونزول عيسى عليه الصّلاة والسّلام ، ونحوها. والخلق متعبّدون في المتشابه بالإيمان به ، وفي المحكم بالإيمان به والعمل ، ومما يصدق ذلك قراءة عبد الله «إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنّا» ، وفي حرف أبي : «ويقول الراسخون في العلم آمنا به» ، وقال عمر بن عبد العزيز في هذه الآية : انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا : آمنّا به كلّ من عند ربنا. وهذا القول أقيس في العربية وأشبه بظاهر الآية. قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، [أي : الداخلون في العلم](٣) هم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في معرفتهم شكّ ، وأصله من رسوخ الشيء [في الشيء](٤) وهو ثبوته ، يقال : رسخ الإيمان في قلب فلان ، يرسخ رسخا ورسوخا ، وقيل : الراسخون في العلم مؤمنو أهل الكتاب ، مثل عبد الله بن سلام وأصحابه ، دليله قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) [النساء : ١٦٢] ، يعني : الدارسون (٥) علم التوراة والإنجيل ، وسئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الراسخين في العلم ، قال : العالم العامل بما علم المتّبع له (٦). وقيل : الراسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد (٧) بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والسدي : بقولهم آمنّا به سمّاهم الله تعالى راسخين (٨) في العلم ، فرسوخهم في العلم قولهم آمنّا به ، أي : بالمتشابه ، (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) : المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ، وما علمنا وما لم نعلم ، (وَما يَذَّكَّرُ) : [و] ما يتّعظ بما في القرآن ، (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) : ذوو العقول.
__________________
(١) زيد في المطبوع وحده «مع علمهم».
(٢) في المطبوع «في القرآن» بدل «للقرآن».
(٣) زيد في المطبوع و ـ ط.
(٤) زيد في المطبوع و ـ ط.
(٥) في المخطوط «المدارسين».
(٦) في المطبوع «لما علم» بدل «له» والمثبت عن ـ ط.
(٧) في المخطوط «وزهده».
(٨) في المخطوط «راسخون».