للإسلام ولله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي ... «الحديث» ..
فهذه الرواية هي التي تنفق مع ظاهر النص في السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ...) إلخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك ، مع توجيه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة.
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ؛ لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها ..
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم. فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال : ما تقولون في قول الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي : أكذلك تقول يا بن عباس؟ «فقلت لا. فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أعلمه له. قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً). فقال عمر ابن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول (تفرد به البخاري).
فلا يمتنع أن يكون الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل ، وأنه سيلقى ربه قريبا. فكان هذا معنى قول ابن عباس : هو أجل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أعلمه له .. إلخ ..
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي ـ بإسناده ـ عن ابن عباس كذلك : قال : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) .. دعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاطمة وقال : «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت. ثم ضحكت. وقالت أخبرني : أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : «اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي» فضحكت.
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة. فكأنها نزلت والعلامة حاضرة. أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق. فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه أجله .. إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني. وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه .. عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «دعا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاطمة عام الفتح فناجاها ، فبكت ، ثم ناجاها فضحكت. قالت : فلما توفي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سألتها عن بكائها وضحكها. قالت : أخبرني رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه يموت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران. فضحكت .. (أخرجه الترمذي).
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني ، ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه. من أنه كانت هناك علامة بين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وربه هي : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ..) فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها.
* * *