ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة .. فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير :
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ...
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص ، عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث ، وما يقع في هذه الحياة من حوادث. وعن دور الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ودور المؤمنين في هذه الدعوة ، وحدّهم الذي ينتهون إليه في هذا الأمر .. هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ ...) .. فهو نصر الله يجيء به الله : في الوقت الذي يقدره. في الصورة التي يريدها. للغاية التي يرسمها. وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء ، وليس لهم في هذا النصر يد. وليس لأشخاصهم فيه كسب. وليس لذواتهم منه نصيب. وليس لنفوسهم منه حظ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم. وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم ، وأن يقيمهم عليه حراسا ، ويجعلهم عليه أمناء .. هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا ..
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن معه بإزاء تكريم الله لهم ، وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم. إن شأنه ـ ومن معه ـ هو الاتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار.
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه. وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه ، وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم ، بعد العمى والضلال والخسران.
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل : الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح ، وفرحة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار.
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي ، والشدة الطاغية والكرب الغامر .. من ضيق بالشدة ، واستبطاء لوعد الله بالنصر ، وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١) فمن هذا يكون الاستغفار.
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد الإنسان ، مهما كان ، ضعيف محدود ، وآلاء الله دائمة الفيض والهملان .. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .. فمن هذا التقصير يكون الاستغفار ..
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار .. ففيه إيحاء للنفس وإشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز. فأولى أن تطامن من كبريائها ، وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور ..
__________________
(١) سورة البقرة : آية (٢١٤).