وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية. وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد!
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة .. صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم.
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ..
لقد أقرأه فلا ينسى (إلا ما شاء الله) ويسره لليسرى. لينهض بالأمانة الكبرى .. ليذكر. فلهذا أعدّ ، ولهذا بشر .. فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذا للقلوب ، ووسيلة للبلاغ. ذكر (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) .. والذكرى تنفع دائما ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيرا كان أو قليلا. ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب ..
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات ، ندرك عظمة الرسالة ، وضخامة الأمانة ، التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى ، وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما ؛ كي ينهض الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعبء التذكير ، وهو مزود بهذا الزاد الكبير.
فإذا نهض ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بهذا العبء فقد أدى ما عليه ، والناس بعد ذلك وشأنهم ؛ تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم ، ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى :
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ..
فذكرّ ... وسينتفع بالذكرى (مَنْ يَخْشى) .. ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى ، فيخشى غضب الله وعذابه. والقلب الحي يتوجس ويخشى ، مذ يعلم أن للوجود إلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فلن يترك الناس سدى ، ولن يدعهم هملا ؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر ، ومجازيهم بالقسط والعدل. ومن ثم فهو يخشى. فإذا ذكر ذكر ، وإذا بصر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر.
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) .. يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها. وهو إذن (الْأَشْقَى) الأشقى إطلاقا وإجمالا. الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها. الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموجباتها العميقة. والذي يعيش قلقا متكالبا على ما في الأرض كادحا لهذا الشأن الصغير! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى :
(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ..
والنار الكبرى هي نار جهنم. الكبرى بشدتها ، والكبرى بمدتها ، والكبرى بضخامتها .. حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول. فلا هو يموت فيجد طعم الراحة ؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة. إنما هو العذاب الخالد ، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى!
وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ..
والتزكي : التطهر من كل رجس ودنس ، والله ـ سبحانه ـ يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ،