فاستحضر في قلبه جلاله : (فَصَلَّى) .. إما بمعنى خشع وقنت. وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي ، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب ، والشعور بمهابته في الضمير .. هذا الذي تطهر وذكر وصلى (قَدْ أَفْلَحَ) يقينا. أفلح في دنياه ، فعاش موصولا ، حي القلب ، شاعرا بحلاوة الذكر وإيناسه. وأفلح في أخراه ، فنجا من النار الكبرى ، وفاز بالنعيم والرضى ..
فأين عاقبة من عاقبة؟ وأين مصير من مصير؟
* * *
وفي ظل هذا المشهد. مشهد النار الكبرى للأشقى. والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى :
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ..
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى. فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها. وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها ..
وتسميتها (الدُّنْيا) لا تجيء مصادفة. فهي الواطية الهابطة ـ إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) .. خير في نوعها ، وأبقى في أمدها.
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير. لا يقدم عليهما عاقل بصير.
* * *
وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة ، وعراقة منبتها ، وامتداد جذورها في شعاب الزمن ، وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان :
(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) ..
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى. هذا الحق الأصيل العريق. هو الذي في الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى.
ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها ، ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر .. إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد. تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة. ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد. الصادر من مصدر واحد .. من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ..
* * *