إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا. يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه .. إلى الله .. فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير ـ وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير ـ يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص. اليسر في يده. واليسر في لسانه. واليسر في خطوه. واليسر في عمله. واليسر في تصوره. واليسر في تفكيره. واليسر في أخذه للأمور. واليسر في علاجه للأمور. اليسر مع نفسه واليسر مع غيره.
وهكذا كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في كل أمره .. ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة ـ رضي الله عنها (١) ـ وكما قالت عنه : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساما ضحاكا» وفي صحيح البخاري : «كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتنطلق به حيث شاءت»!
وفي هديه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة.
جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في «ملابسه» : «كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة. وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه ـ كما رواه مسلم في صحيحه. عن عمر بن حريث قال : رأيت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. وفي مسلم أيضا عن جابر ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه. وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه». وفي فصل آخر قال : «والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها. وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس. من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر. ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة .. إلخ» ..
وقال في هديه في الطعام : «وكذلك كان هديه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وسيرته في الطعام ، لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا. فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله ـ إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم ـ وما عاب طعاما قط. إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ، ولم يحرمه على الأمة ، بل أكل على مائدته وهو ينظر. وأكل الحلوى والعسل ـ وكان يحبهما ـ وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزبرة ـ وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق ـ وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل ، وأكل القديد ، وأكل الدباء المطبوخة ـ وكان يحبها ـ وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب. وأكل التمر بالزبد ـ وكان يحبه ـ ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه صبر ... إلخ».
وقال عن هديه في نومه وانتباهه : «كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير ، تارة ، وعلى
__________________
(١) أخرجه الشيخان عن عائشة.