في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار. الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا (١).
* * *
بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمته من ورائه :
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ـ إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ـ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ..
وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) .. فعليه القراءة يتلقاها عن ربه ، وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه ، فلا ينسى ما يقرئه ربه.
وهي بشرى للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه. الذي كان يندفع بعاطفة الحب له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه .. إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه. حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه.
وهي بشرى لأمته من ورائه ، تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة. فهي من الله. والله كافلها وحافظها في قلب نبيها. وهذا من رعايته سبحانه ، ومن كرامة هذا الدين عنده ، وعظمة هذا الأمر في ميزانه.
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم ، أو ناموس دائم ، يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك ، وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها. فهي طليقة وراء الوعد والناموس. ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع ـ كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال ـ ومن ذلك ما جاء هنا :
(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) .. فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية ، بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى. ليظل الأمر في اطار المشيئة الكبرى ؛ ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها. ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا ..
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) .. وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء .. فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ؛ ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا.
* * *
والبشرى الثانية الشاملة :
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ..
بشرى لشخص الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبشرى لأمته من ورائه. وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود .. وإن هاتين الكلمتين : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضا. فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود. الوجود الخارج من يد القدرة في يسر. السائر في طريقه بيسر. المتجه إلى غايته بيسر. فهي انطلاقة من نور ؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود ..
__________________
(١) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب : «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق».