فيما يمكن تسميته «بحدائق الأعشاش». وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق (وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية) فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له.
«والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه ، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب. وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها ، تستخدم صغارها ـ التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير ـ لحياكتها معا! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه ، ولكنه قد خدم الجماعة! «فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة ، أن تقوم بهذه العمليات المعقدة؟
«لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك» .. انتهى ..
أجل. لا شك أن هناك خالقا أرشدها ، وأرشد غيرها من الخلائق. كبيرها وصغيرها. إلى كل ذلك .. إنه (الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ..
وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان. ووراءها حشود من مثلها كثيرة .. وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) .. في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه ؛ بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف!
* * *
وبعد عرض هذا المدى المتطاول ، من صفحة الوجود الكبيرة ، وإطلاق التسبيح في جنباته ، تتجاوب به أرجاؤه البعيدة ، يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها :
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).
والمرعى كل نبات. وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا. فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها.
والمرعى يخرج في أول أمره خضرا ، ثم يذوي فإذا هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى. وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى.
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية. وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى ... (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) .. والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى .. والآخرة هي التي تبقى.
* * *
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة .. تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود ؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار العريض الجميل. والملحوظ أن معظم السور