ثم تتوالى التعقيبات ..
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) .. وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا. فالبطش الشديد هو بطش الجبار. الذي له ملك السماوات والأرض. لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة ، في رقعة من الزمان محدودة ..
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب ـ وهو الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والقائل وهو الله عزوجل. وهو يقول له : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ ..) ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته ، وسندك الذي تركن إلى معونته .. ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين!
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) .. والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة .. إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار. ففي كل لحظة بدء وإنشاء ، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات. والكون كله في تجدد مستمر .. وفي بلى مستمر .. وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير. فهو بدء لإعادة. أو إعادة لبدء. في هذه الحركة الدائبة الدائرة ..
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) .. والمغفرة تتصل بقوله من قبل : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) .. فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود. وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب. ولو عظم الذنب وكبرت المعصية .. أما الود .. فيتصل بموقف المؤمنين ، الذين اختاروا ربهم على كل شيء. وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم. حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة ، يتحرج القلم من وصفها لو لا أن فضل الله يجود بها .. مرتبة الصداقة .. الصداقة بين الرب والعبد .. ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين .. فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة؟ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض. عبيد الواحد من البشرة ، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه ، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه .. وهو عبد وهم عبيد .. فكيف بعباد الله. الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل ، الله (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة. وهان الألم. وهان العذاب. وهان كل غال عزيز ، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد ..
(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) .. هذه صفته الكثيرة التحقق ، الدائبة العمل .. فعال لما يريد .. فهو مطلق الإرادة ، يختار ما يشاء ؛ ويفعل ما يريده ويختاره ، دائما أبدا ، فتلك صفته سبحانه.
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها. ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها .. يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض. ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود .. لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك ، في قدره المرسوم ..
فهذا طرف من فعله لما يريد. يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود. وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود.
فعال لما يريد. وهاك نموذجا من فعله لما يريد :