ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود .. وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين ، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدا. وكفى بالله شهيدا.
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار ، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها ، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه. فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد ، ووراءه في حساب الله ما وراءه.
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة ، والعقيدة المنتصرة على الحياة ، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير : معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم ، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب ، ولأعدائهم الطاغين حساب .. يعقب به السياق ..
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ـ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ـ فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) ..
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف. فالبقية آتية هناك. والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت. وهو مقرر مؤكد ، وواقع كما يقول عنه الله :
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) .. ومضوا في ضلالتهم سادرين ، لم يندموا على ما فعلوا (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) ..
(فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) .. وينص على (الْحَرِيقِ) .. وهو مفهوم من عذاب جهنم. ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث. ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله ، والارتكاس الهابط الذميم!
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) .. وهذه هي النجاة الحقيقية : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) .. والفوز : النجاة والنجاح. والنجاة من عذاب الآخرة فوز. فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه. وهي الخاتمة الحقيقية للموقف. فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه ، لا يتم به تمامه .. وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة ، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون.
* * *