ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء :
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ..
والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد ، الذي آمن وأحسن ، فرضي الله عنه وكتب له النجاة. وهو يحاسب حسابا يسيرا. فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب. والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفيها غناء ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من نوقش الحساب عذب» قالت : قلت : أفليس قال الله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً). قال : «ليس ذلك بالحساب ، ولكن ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب (١)» ..
وعنها كذلك قالت : سمعت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» .. فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير؟ قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه. من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك (٢)» ..
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه .. ثم ينجو (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) .. من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة .. وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة. كل ومن أحب من أهله وصحبه. ويصور رجعة الناجي من الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب. رجعته متهللا فرحا مسرورا بالنجاة واللقاء في الجنان!
وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيئ ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره :
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) ..
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال. فهذه صورة جديدة : صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر. وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره. فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة!
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر. إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول ؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني. وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما. وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس ، والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون! فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحا ، وقطع طريقه إلى ربه كدحا ـ ولكن في المعصية والإثم والضلال ـ يعرف نهايته ، ويواجه مصيره ، ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء. فيدعو ثبورا ، وينادي الهلاك لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء. وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به ، يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه. حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه. وهذا هو المعنى الذي أراده المتنبي وهو يقول :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا |
|
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا |
__________________
(١) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
(٢) رواه الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن الزبير عن عائشة. وهو صحيح على شرط مسلم. ولم يخرجه.