أو بيضاوي ـ والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتيا من فعل خارج عنها ، مما يفيده بناء الفعل للمجهول : (مُدَّتْ).
(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) .. وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه. وما فيها كثير. منه تلك الخلائق التي لا تحصى ، والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها. ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها. وقد حملت حملها هذا أجيالا بعد أجيال ، وقرونا بعد قرون. حتى إذا كان ذلك اليوم : ألقت ما فيها وتخلت ..
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) .. هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت. واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة ، معترفة أن هذا حق عليها ، وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها ..
وتبدو السماء والأرض ـ بهذه الآيات المصورة ـ ذواتي روح. وخليقتين من الأحياء. تستمعان للأمر ، وتلبيان للفور ، وتطيعان طاعة المعترف بالحق ، المستسلم لمقتضاه ، استسلاما لا التواء فيه ولا إكراه.
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم. فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال. والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام!
* * *
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان ، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلما لربه هذا الاستسلام :
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ..
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) .. الذي خلقه ربه بإحسان ؛ والذي ميزه بهذه «الإنسانية» التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه ، وأطوع لأمره من الأرض والسماء. وقد نفخ فيه من روحه ، وأودعه القدرة على الاتصال به ، وتلقي قبس من نوره ، والفرح باستقبال فيوضاته ، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد ، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه ، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة!
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .. يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا ، تحمل عبئك ، وتجهد جهدك ، وتشق طريقك .. لتصل في النهاية إلى ربك. فإليه المرجع وإليه المآب. بعد الكد والكدح والجهاد ..
يا أيها الإنسان .. إنك كادح حتى في متاعك .. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد. إن لم يكن جهد بدن وكد عمل ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر. الواجد والمحروم سواء. إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان .. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء.
يا أيها الإنسان .. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا. إنما الراحة هناك. لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام .. التعب واحد في الأرض والكدح واحد ـ وإن اختلف لونه وطعمه ـ أما العاقبة فمختلفة عند ما تصل إلى ربك .. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض. وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد ..
يا أيها الإنسان .. الذي امتاز بخصائص (الْإِنْسانُ) .. ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله ، اختر لنفسك الراحة من الكدح عند ما تلقاه.
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء ، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عند ما يصلون إلى نهاية الطريق ،