فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة. والشقاء الذي ليس بعده شقاء! .. (وَيَصْلى سَعِيراً) .. وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه .. وهيهات هيهات!
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء ..
(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) ..
وذلك كان في الدنيا .. نعم كان .. فنحن الآن ـ مع هذا القرآن ـ في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان!
(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) .. غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة ؛ لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة ، لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا .. (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) إلى ربه ، ولن يرجع إلى بارئه ، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئا للحساب!
(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ..
إنه ظن أن لن يحور. ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعا على أمره ، محيطا بحقيقته ، عالما بحركاته وخطواته ، عارفا أنه صائر إليه ، وأنه مجازيه بما كان منه .. وكذلك كان ، حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله. والذي لم يكن بد أن يكون!
وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح ـ في صورة من صور الكدح ـ تقابلها صورة ذلك السعيد ، وهو ينقلب إلى أهله مسرورا في حياة الآخرة المديدة ، الطليقة ، الجميلة ، السعيدة ، الهنيئة ، الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء ..
* * *
ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة ، يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم ، وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير ، الذي يشملهم كذلك ، ويقدّر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال :
(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ .. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) ..
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها ، لتوجيه القلب البشري إليها ، وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها .. لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن ، والجلال المرهوب. وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة.
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب .. وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق. كما يحس برهبة الليل القادم ، ووحشة الظلام الزاحف. ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون!
(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) .. هو الليل وما جمع وما حمل .. بهذا التعميم ، وبهذا التجهيل ، وبهذا التهويل. والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير .. ويذهب التأمل بعيدا ، وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر ، وعوالم خافية ومضمرة ، ساربة في الأرض وغائرة في الضمير .. ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة ، ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) .. إنما يغمره من النص العميق العجيب ، رهبة ووجل ، وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون!