السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ، وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ..
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس (الْإِنْسانُ) لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ؛ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) ..
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون ؛ وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين. وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ؟) .. ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ. فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ..
* * *
إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف. سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة. في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق. والخطاب فيها : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) فيه تذكير واستجاشة للضمير.
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقبا مقصودا .. فمن مشهد الاستسلام الكوني. إلى لمسة لقلب (الْإِنْسانُ). إلى مشهد الحساب والجزاء. إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية. إلى لمسة للقلب البشرى أخرى. إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله. إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون ..
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر .. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير .. ولكنه القرآن ميسر للذكر ؛ يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة. صبغة العليم الخبير!
* * *
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ..
وانشقاق السماء سبق الحديث عنه في سور سابقة. أما الجديد هنا فهو استسلام السماء لربها ؛ ووقوع الحق عليها ، وخضوعها لوقع هذا الحق وطاعتها :
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ..
فإذن السماء لربها : استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق ، (وَحُقَّتْ) .. أي وقع عليها الحق. واعترفت بأنها محقوقة لربها. وهو مظهر من مظاهر الخضوع ، لأن هذا حق عليها مسلم به منها.
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) .. وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها ، مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها ، وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه ـ والمقول إنه كري