المشقة عليهم ، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولا تفغر فاها لتلتهمهم! ويكتب لهم إحدى الحسنين : النجاة والنصر ، أو الاستشهاد والجنة .. هذا هو الأولى. وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم ، ويذهب بالفزع ، ويحل محله الثبات والاطمئنان.
وبينما هو يتحدث عنهم يلتفت إليهم مباشرة ليخاطبهم مقرعا مهددا بسوء العاقبة لو قادهم حالهم هذا إلى النكسة والتولي إلى الكفر ؛ وخلع ذلك الستار الرقيق من الإسلام :
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ؟) ..
وهذا التعبير .. (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) .. يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين. ويلوح لهم بالنذير والتحذير .. احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها. تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام ، كما كان شأنكم قبل الإسلام ..
وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه :
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟).
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه ، ولم يستيقنوه. (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) .. وطردهم وحجبهم عن الهدى ، (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) .. وهم لم يفقدوا السمع ، ولم يفقدوا البصر ؛ ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر ، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر ؛ فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة.
ويتساءل في استنكار : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة ، ويفتح النوافذ ، ويسكب النور ، ويحرك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير ، (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!
* * *
ويمضي في تصوير حال المنافقين ، وسبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه ، فيتبين أنه تآمرهم مع اليهود ، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون :
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ـ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ـ الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) ..
والتعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعد ما تبين لهم ، في صورة حركة حسية ، حركة الارتداد على الأدبار. ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان وتزيينه وإغرائه. فإذا ظاهر هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان! وهم المنافقون الذين يتخون ويتسترون! ثم يذكر السبب الذي جعل للشيطان عليهم هذا السلطان ، وانتهى بهم إلى الارتداد على الأدبار بعد ما عرفوا الهدى وتبينوه :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ..
واليهود في المدينة هم أول من كرهوا ما نزل الله ؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تكون الرسالة الأخيرة فيهم ، وأن يكون خاتم الرسل منهم ؛ وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ويوعدونهم ظهور النبي الذي يقودهم ويمكن لهم في الأرض ، ويسترجع ملكهم وسلطانهم. فلما اختار الله آخر رسله من نسل إبراهيم ، من غير يهود ،