(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) ..
حيث يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة وبالخوف جميعا. الطمأنينة وهو في رعاية الله حيثما تقلب أو ثوى. والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في كل حالاته ، ويطلع على سره ونجواه ..
إنها التربية. التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهفة ، والتطلع والحذر والانتظار ..
* * *
وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عند ما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ ، فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ! أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) ..
وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا. وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ!) ..
(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) .. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) .. أي الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .. وهو وصف من أوصاف المنافقين .. يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :
(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ..
وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشعف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق!
وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :
(فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ..
نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق .. أولى لهم (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) .. طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة ، وتنهض بأمره عن ثقة. وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب ، وطهارة الضمير. وأولى لهم إذا عزم الأمر ، وجد الجد ، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله. يصدقوه عزيمة ، ويصدقوه شعورا. فيربط على قلوبهم ، ويشد من عزائمهم ، ويثبت أقدامهم ، وييسر