كرهوا رسالته. حتى إذا هاجر إلى المدينة كرهوا هجرته ، التي هددت ما بقي لهم من مركز هناك. ومن ثم كانوا إلبا عليه منذ أول يوم ، وشنوا عليه حرب الدس والمكر والكيد ، حينما عجزوا عن مناصبته العداء جهرة في ميادين القتال ؛ وانضم إليهم كل حانق ، وكل منافق ، وظلت الحرب سجالا بينهم وبين رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى أجلاهم في آخر الأمر عن الجزيرة كلها وخلصها للإسلام.
وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم قالوا لليهود : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) .. والأرجح أن ذلك كان في الدس والكيد والتآمر على الإسلام ورسول الإسلام.
(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ).
وهو تعقيب كله تهديد. فأين يذهب تآمرهم وإسرارهم وماذا يؤثر ؛ وهو مكشوف لعلم الله؟ معرض لقوة الله؟
ثم التهديد السافر بجند الله ، والمتآمرون في نهاية الحياة :
(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)!
وهو مشهد مفزع مهين. وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا قوة. وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض. وفي مستهل حياتهم الأخرى. هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار. في لحظة الوفاة ، لحظة الضيق والكرب والمخافة. الأدبار التي ارتدوا عليها من بعد ما تبين لهم الهدى! فيالها من مأساة!
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ..
فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له ، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه .. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) .. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون ؛ ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع!
* * *
وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وللمسلمين ، الذين يعيشون بينهم متخفين ؛ يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون :
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ؟ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ..
ولقد كان المنافقون يعتمدون على إتقانهم فن النفاق ، وعلى خفاء أمرهم في الغالب على المسلمين. فالقرآن يسفه ظنهم أن هذا الأمر سيظل خافيا ، ويهدّدهم بكشف حالهم وإظهار أضغانهم وأحقادهم على المسلمين. ويقول لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) .. أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم ، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه (وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم) ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم ، وإمالتهم للقول عن استقامته ، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ..
ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) .. فلا تخفى عليه منها خافية ..
ثم وعد من الله بالابتلاء .. ابتلاء الأمة الإسلامية كلها ، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح