ولعل هذا الإيحاء هو المقصود! (١).
فإذا انتهى الأمر ، نشرت أسبابه على الحشود :
(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ..
إنه قد خلا قلبه من الإيمان بالله ، والرحمة بالعباد. فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار وذلك العذاب.
خلا قلبه من الإيمان بالله فهو موات ، وهو خرب ، وهو بور. وهو خلو من النور. وهو مسخ من الكائنات لا يساوي الحيوان بل لا يساوي الجماد. فكل شيء مؤمن ، يسبح بحمد ربه ، موصول بمصدر وجوده. أما هو فمقطوع من الله. مقطوع من الوجود المؤمن بالله.
وخلا قلبه من الرحمة بالعباد. والمسكين هو أحوج العباد إلى الرحمة ولكن هذا لم يستشعر قلبه ما يدعو إلى الاحتفال بأمر المسكين. ولم يحض على طعامه وهي خطوة وراء إطعامه. توحي بأن هناك واجبا اجتماعيا يتحاض عليه المؤمنون. وهو وثيق الصلة بالإيمان. يليه في النص ويليه في الميزان!
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) ..
وهي تكملة الإعلان العلوي عن مصير ذلك الشقي. فلقد كان لا يؤمن بالله العظيم ، وكان لا يحض على طعام المسكين. فهو هنا مقطوع (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) .. وهو ممنوع : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) .. والغسلين هو غسالة أهل جهنم من قيح وصديد! وهو يناسب قلبه النكد الخاوي من الرحمة بالعبيد! طعام (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) .. المذنبون المتصفون بالخطيئة .. وهو منهم في الصميم!
وبعد ، فذلك هو الذي يجعله الله مستحقا للأخذ والغل والتصلية والسلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا في الجحيم. وهو أشد دركات جهنم عذابا .. فكيف بمن يمنع طعام المسكين ومن يجيع الأطفال والنساء والشيوخ ، ومن يبطش بطشة الجبارين بمن يمد إليهم يده باللقمة والكساء في برد الشتاء؟ أين ترى يذهب هؤلاء ، وهم يوجدون في الأرض بين الحين والحين؟ وما الذي أعده الله لهم وقد أعد لمن لا يحض على طعام المسكين ، ذلك العذاب في الجحيم؟
وينتهي هذا المشهد العنيف المثير. الذي لعله جاء في هذه الصورة المفزعة لأن البيئة كانت جبارة قاسية عنيدة تحتاج إلى عرض هذه المشاهد العنيفة كي تؤثر فيها وتهزها وتستحييها. ومثل هذه البيئة يتكرر في الجاهليات التي تمر بها البشرية ، كما أنه يوجد في الوقت الواحد مع أرق البيئات وأشدها تأثرا واستجابة. لأن رقعة الأرض واسعة. وتوزيع المستويات والنفسيات فيها مختلف. والقرآن يخاطب كل مستوى وكل نفس بما يؤثر فيها ، وبما تستجيب له حين يدعوها. والأرض تحتوي اليوم في بعض نواحيها قلوبا أقسى ، وطبائع أجسى ، وجبلات لا يؤثر فيها إلا كلمات من نار وشواظ كهذه الكلمات. ومشاهد وصور مثيرة كهذه المشاهد والصور المثيرة ..
* * *
وفي ظل هذه المشاهد العنيفة المثيرة ، المتوالية منذ أول السورة ، مشاهد الأخذ في الدنيا والآخرة ، ومشاهد التدمير الكونية الشاملة ، ومشاهد النفوس المكشوفة العارية ، ومشاهد الفرحة الطائرة والحسرة الغامرة ..
في ظل هذه المشاهد العميقة الأثر في المشاعر يجيء التقرير الحاسم الجازم عن حقيقة هذا القول الذي جاءهم به
__________________
(١) مشاهد القيامة : سورة الحاقة. «دار الشروق».