هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) .. فوق أنه اللون الذي تبلغ إليه مدارك المخاطبين بالقرآن في أول العهد بالصلة بالله ، قبل أن تسمو المشاعر فترى في القرب من الله ما هو أعجب من كل متاع .. فوق هذا فإنه يلبي حاجات نفوس كثيرة على مدى الزمان. والنعيم ألوان غير هذا وألوان ..
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته ، وأن إلى العذاب مصيره ، فيقف في هذا المعرض الحافل الحاشد ، وقفة المتحسر الكسير الكئيب .. (فَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ! وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ! يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ! ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ! هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ!) ..
وهي وقفة طويلة ، وحسرة مديدة ، ونغمة يائسه ، ولهجة بائسة. والسياق يطيل عرض هذه الوقفة حتى ليخيل إلى السامع أنها لا تنتهي إلى نهاية ، وأن هذا التفجع والتحسر سيمضي بلا غاية! وذلك من عجائب العرض في إطالة بعض المواقف ، وتقصير بعضها ، وفق الإيحاء النفسي الذي يريد أن يتركه في النفوس. وهنا يراد طبع موقف الحسرة وإيحاء الفجيعة من وراء هذا المشهد الحسير. ومن ثم يطول ويطول ، في تنغيم وتفصيل. ويتمنى ذلك البائس أنه لم يأت هذا الموقف ، ولم يؤت كتابه ، ولم يدر ما حسابه ؛ كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية ، التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا .. ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) .. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) .. فلا المال أغنى أو نفع. ولا السلطان بقي أو دفع .. والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة وفي ياء العلة قبلها بعد المد بالألف ، في تحزن وتحسر .. هي جزء من ظلال الموقف الموحية بالحسرة والأسى إيحاء عميقا بليغا (١) ..
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
(خُذُوهُ. فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ. ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ..
يا للهول الهائل! ويا للرعب القاتل! ويا للجلال الماثل!
(خُذُوهُ) ..
كلمة تصدر من العلي الأعلى. فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل. ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : «إذا قال الله تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك. إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار» .. كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة!
(فَغُلُّوهُ) ..
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه ..!
(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ..
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه ..
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ..
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها.
__________________
(١) يراجع فصل : التناسق الفني في كتاب : التصوير الفني في القرآن. كما تراجع سورة الحاقة في كتاب : مشاهد القيامة في القرآن. «دار الشروق».