الرسول الكريم ، فتلقوه بالشك والسخرية والتكذيب :
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ ، قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ ، قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..
إن الأمر لا يحتاج إلى قسم وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع. لا يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ، ولا افتراء مفتر! لا. فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين :
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) ..
بهذه الفخامة وبهذه الضخامة ، وبهذا التهويل بالغيب المكنون ، إلى جانب الحاضر المشهود .. والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر. بل مما يدركون. وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة ، تلبي حاجتهم إلى عمارة هذه الأرض والخلافة فيها ـ كما شاء الله لهم ـ والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس في ذلك الكون الكبير. والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون لهم برؤيته وبإدراكه من هذا الملك العريض ، ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التي أودعها إياه خالق الوجود ..
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) ..
ومثل هذه الإشارة تفتح القلب وتنبه الوعي إلى أن هناك وراء مد البصر ووراء حدود الإدراك جوانب وعوالم وأسرارا أخرى لا يبصرها ولا يدركها. وتوسع بذلك آفاق التصور الإنساني للكون والحقيقة. فلا يعيش الإنسان سجين ما تراه عيناه ، ولا أسير ما يدركه وعيه المحدود. فالكون أرحب والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود من الطاقة يناسب وظيفته في هذا الكون. ووظيفته في الحياة الدنيا هي الخلافة في هذه الأرض .. ولكنه يملك أن يكبر ويرتفع إلى آماد وآفاق أكبر وأرفع حين يستيقن أن عينه ومداركه محدودة ، وأن هناك وراء ما تدركه عينه ووعيه عوالم وحقائق أكبر ـ بما لا يقاس ـ مما وصل إليه .. عندئذ يتسامى على ذاته ويرتفع على نفسه ، ويتصل بينابيع المعرفة الكلية التي تفيض على قلبه بالعلم والنور والاتصال المباشر بما وراء الستور!
إن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما ترى العين ، ويدرك الوعي ، بأدواته الميسرة له .. مساكين! سجناء حسهم وإدراكهم المحدود. محصورون في عالم ضيق على سعته ، صغير حين يقاس إلى ذلك الملك الكبير ..
وفي فترات مختلفة من تاريخ هذه البشرية كان كثيرون أو قليلون يسجنون أنفسهم بأيديهم في سجن الحس المحدود ، والحاضر المشهود ؛ ويغلقون على أنفسهم نوافذ المعرفة والنور ، والاتصال بالحق الكبير ، عن طريق الإيمان والشعور. ويحاولون أن يغلقوا هذه النوافذ على الناس بعد ما أغلقوها على أنفسهم بأيديهم .. تارة باسم الجاهلية. وتارة باسم العلمانية! وهذه كتلك سجن كبير. وبؤس مرير. وانقطاع عن ينابيع المعرفة والنور!
والعلم يتخلص في هذا القرن الأخير من تلك القضبان الحديدية التي صاغها ـ بحمق وغرور ـ حول نفسه في القرنين الماضيين .. يتخلص من تلك القضبان ، ويتصل بالنور ـ عن طريق تجاربه ذاتها ـ بعد ما أفاق من سكرة الغرور والاندفاع من أسر الكنيسة الطاغية في أوربا (١) ؛ وعرف حدوده ، وجرب أن أدواته المحدودة تقوده إلى غير المحدود في هذا الكون وفي حقيقته المكنونة. وعاد «العلم يدعو إلى الإيمان» (٢) في تواضع تبشر
__________________
(١) يراجع بتوسع كتاب : الإنسان بين المادية والإسلام لمحمد قطب .. فصل نظرة المسيحية وفصل فرويد «دار الشروق».
(٢) عنوان ترجمة كتاب ا. كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك لمحمود صالح الفلكي.