والموعد الذي يشكون فيه قد حان ؛ وكأنما هم واجهوه الآن. فكان فيه ما كان :
«فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون»!
فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد. فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء. ووجه إليهم التأنيب : (وَقِيلَ : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) .. هذا هو حاضرا قريبا. وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون!
وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه.
ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة. فهذا اليوم كائن في علم الله ؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر. وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله. ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله. فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لا نكشفت لهم. في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم.
* * *
ولقد كانوا يتربصون بالنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم. كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال. فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم :
(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا ، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) ..
وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه ـ كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه. والله باق لا يموت. وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون ..
ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم؟ ولا ينص على أنهم كافرون. إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .. وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية. فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم .. فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد.
ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح!
ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين ، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه ، مع التلميح إلى اطمئنانهم لإيمانهم ، وثقتهم بهداهم ، وبأن الكافرين في ضلال مبين.
(قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وذكر صفة (الرَّحْمنُ) هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه ؛ فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون.