بها الإنسان في هذا الملك العريض. والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال. أمانة الإيمان الاختياري ، والاهتداء الذاتي ، والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم (١) ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة ، ولا مركزها ، داخل الجسم أو خارجه! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه.
وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى ، فإنه لم يشكر : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) .. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به ، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر ، لا يشكر نعمة الله عليه ؛ وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه!
* * *
ثم يذكرهم أن الله لم ينشئ البشر ويمنحهم هذه الخصائص عبثا ولا جزافا لغير قصد ولا غاية. إنما هي فرصة الحياة للابتلاء. ثم الجزاء في يوم الجزاء :
(قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ..
والذرء : الإكثار. ويحمل كذلك معنى الانتشار. والحشر : الجمع بعد النشر في الأرجاء. وهما حركتان متقابلتان من الناحية التصورية ، تقابلهما من الناحية المعنوية. ذلك مشهد للإكثار من الخلق ونشرهم أو نثرهم في الأرض. وهذا مشهد لجمعهم منها وحشرهم بعد النشر والنثر! ويجمعهما السياق في آية واحدة ، ليتقابل المشهدان في الحس والتصور على طريقة القرآن. وليتذكر البشر وهم منتشرون في الأرض أن هناك غاية هم صائرون إليها ، هي الجمع والحشر. وأن هناك أمرا وراء هذا ، ووراء الابتلاء بالموت والحياة.
ثم يحكي شكهم في هذا الحشر ، وارتيابهم في هذا الوعد :
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ ..
وهو سؤال الشاك المستريب. كما أنه سؤال المماحك المتعنت. فإن معرفة موعد هذا الوعد وميقاته لا تقدم ولا تؤخر ؛ ولا علاقة لها بحقيقته ، وهو أنه يوم الجزاء بعد الابتلاء. ويستوي بالقياس إليهم أن يجيء غدا أو أن يجيء بعد ملايين السنين .. فالمهم أنه آت ، وأنهم محشورون فيه ، وأنهم مجازون بما عملوا في الحياة.
ومن ثم لم يطلع الله أحدا من خلقه على موعده ، لأنه لا مصلحة لهم في معرفته ، ولا علاقة لهذا بطبيعة هذا اليوم وحقيقته ، ولا أثر له في التكاليف التي يطالب الناس بها استعدادا لملاقاته ، بل المصلحة والحكمة في إخفاء ميقاته عن الخلق كافة ، واختصاص الله بعلم ذلك الموعد ، دون الخلق جميعا :
(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).
وهنا يبرز بجلاء فارق ما بين الخالق والمخاليق. وتتجرد ذات الله ووحدانيته بلا شبيه ولا شريك. ويتمحض العلم له سبحانه. ويقف الخلق ـ بما فيهم الرسل والملائكة (٢) ـ في مقامهم متأدبين عند مقام الألوهية العظيم : (قُلْ : إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. وظيفتي الإنذار ، ومهمتي البيان. أما العلم فعند صاحب العلم الواحد بلا شريك.
وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ،
__________________
(١) يراجع تفسير قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ... في ص ٢٨٨٤ ـ ٢٨٨٦ من الجزء ٢٢ من الظلال.
(٢) في حديث حقيقة الإسلام والإيمان .. سأل جبريل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن الساعة ، فقال : «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ..
أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.