ويوجه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن. صلة الإيمان (آمَنَّا بِهِ) .. وصلة التوكل (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) .. عليه وحده .. والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن. والله ـ سبحانه ـ هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى ، ويوجهه إلى هذا الإعلان. وكأنما ليقول له : لا تخف مما يقوله الكفار. فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إليّ. وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة ، وهذا المقام! فقل لهم ... وهذا ود من الله وتكريم ..
ثم ذلك التهديد الملفوف : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ؛ ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا ، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم. وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس ..
* * *
وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة يلمح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وذلك بحرمانهم من سبب الحياة الأول ، وهو الماء :
(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟) ..
والماء الغور : الغائر الذاهب في الأرض لا يقدرون عليه. والمعين : النابع الفائض المتدفق. وهي لمسة قريبة في حياتهم ، إن كانوا ما يزالون يستبعدون ذلك اليوم ويشكون فيه .. والملك بيد الله وهو على كل شيء قدير. فكيف لو توجهت إرادته إلى حرمانهم مصدر الحياة القريب!
ثم يدعهم يتدبرون ما يكون لو أذن الله بوقوع هذا المحذور!
* * *
وهكذا تنتهي هذه السورة ، وينتهي هذا الحشد من الإيقاعات واللمسات ، وهذه الرحلات والجولات. في آفاق وأغوار وأبعاد مترامية الأطراف. وكل آية على وجه التقريب كانت إيقاعا خاصا. أو كانت رحلة في عالم مجهول مغيب ، أو منظور لا تلتفت إليه الأنظار والقلوب.
إنها سورة ضخمة. سورة أكبر من حجمها وحيزها وعدد آياتها. وكأنما هي سهام تشير إلى بعيد ، ويكاد كل سهم يستقل بكشف عالم جديد!
وهي تبني من قواعد التصور الإسلامي جوانب رئيسية هامة ؛ فهي تقر في الضمير حقيقة القدرة المطلقة ، وحقيقة الهيمنة المطلقة. وحقيقة الابتلاء بالموت والحياة تمهيدا للحشر والجزاء. وحقيقة الكمال والجمال في صنعة الله. وحقيقة العلم المطلق بالسر والنجوى. وحقيقة مصدر الرزق. وحقيقة حفظ الله للخلائق ، وحضوره سبحانه ـ مع كل مخلوق ... وجملة من هذه الحقائق التي يقوم عليها تصور المسلم لربه. وتصوره للوجود وارتباطه بخالق الوجود. هذا التصور الذي ينبثق منه منهج حياة المؤمن كله. مع ربه. ومع نفسه. ومع الناس. ومع الأحياء. ومع الكون كله من أحياء وأشياء. والذي يتكيف به شعوره وضميره وشخصيته وقيمه وموازينه ، واستقباله للحياة ...
* * *