انتهى إليه جهده وعمله ، وما انتهت إليه طاقته ووسعه. ويدع له الأمر بعد أن لم تعد لديه طاقة لم يبذلها ، وبعد أن لم تبق له حيلة ولا حول :
(فَدَعا رَبَّهُ : أَنِّي مَغْلُوبٌ. فَانْتَصِرْ) ..
انتهت طاقتي. انتهى جهدي. انتهت قوتي. وغلبت على أمري. (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) .. انتصر أنت يا ربي. انتصر لدعوتك. انتصر لحقك. انتصر لمنهجك. انتصر أنت فالأمر أمرك ، والدعوة دعوتك. وقد انتهى دوري!
وما تكاد هذه الكلمة تقال ؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار ، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة .. فتدور دورتها المدوية المجلجلة :
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ..
وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة. تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة : (فَفَتَحْنا) فيحس القارئ يد الجبار تفتح (أَبْوابَ السَّماءِ) .. بهذا اللفظ وبهذا الجمع. (بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) .. غزير متوال. وبالقوة ذاتها وبالحركة نفسها : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) .. وهو تعبير يرسم مشهد التفجر وكأنه ينبثق من الأرض كلها ، وكأنما الأرض كلها قد استحالت عيونا.
والتقى الماء المنهمر من السماء بالماء المتفجر من الأرض .. (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) .. التقيا على أمر مقدر ، فهما على اتفاق لتنفيذ هذا الأمر المقدر. طائعان للأمر ، محققان للقدر.
حتى إذا صار طوفانا يطم ويعم ، ويغمر وجه الأرض ، ويطوي الدنس الذي يغشى هذا الوجه وقد يئس الرسول من تطهيره ، وغلب على أمره في علاجه. امتدت اليد القوية الرحيمة إلى الرسول الذي دعا دعوته ، فتحرك لها الكون كله. امتدت له هذه اليد بالنجاة وبالتكريم :
(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) ..
وظاهر من العبارة تفخيم السفينة وتعظيم أمرها. فهي ذات ألواح ودسر (١). توصف ولا تذكر لفخامتها وقيمتها. وهي تجري في رعاية الله بملاحظة أعينه. (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ). وجحد وازدجر. وهو جزاء يمسح بالرعاية على الجفاء ، وبالتكريم على الاستهزاء. ويصور مدى القوة التي يملك رصيدها من يغلب في سبيل الله. ومن يبذل طاقته ، ثم يعود إليه يسلم له أمره وأمر الدعوة ويدع له أن ينتصر! .. إن قوى الكون الهائلة كلها في خدمته وفي نصرته. والله من ورائها بجبروته وقدرته.
وعلى مشهد الانتصار الهائل الكامل ؛ والمحق الحاسم الشامل ، يتوجه إلى القلوب التي شهدت المشهد كأنها تراه. يتوجه إليها بلمسة التعقيب ، لعلها تتأثر وتستجيب :
(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) ..
هذه الواقعة بملابساتها المعروفة. تركناها آية للأجيال (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) يتذكر ويعتبر؟
ثم سؤال لإيقاظ القلوب إلى هول العذاب وصدق النذير :
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) ..
__________________
(١) الدسر : المسامير