المكذبين قبلهم ومصارعهم ، وأنباء الآخرة التي صورها القرآن لهم .. وكان في هذا كله زاجر ورادع لمن يزدجر ويرتدع. وكان فيه من حكمة الله ما يبلغ القلوب ويوجهها إلى تدبيره الحكيم. ولكن القلوب المطموسة لا تتفتح لرؤية الآيات ، والانتفاع بالأنباء ، واليقظة على صوت النذير بعد النذير : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ). إنما هو الإيمان هبة الله للقلب المتهيئ للإيمان ، المستحق لهذا الإنعام!
وعند هذا الحد من تصوير إعراضهم وإصرارهم ، وعدم انتفاعهم بالأنباء ، وقلة جدوى النذر مع هؤلاء. يتوجه الخطاب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للإعراض عنهم وتركهم يلاقون اليوم الذي لا يحفلون النذير باقترابه ، وهم يرون انشقاق القمر بين يدي مجيئه :
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ : هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) ..
وهو مشهد من مشاهد ذلك اليوم ، يناسب هوله وشدته ظلال السورة كلها ؛ ويتناسق مع الإرهاص باقتراب الساعة ، ومع الإنباء بانشقاق القمر ، ومع الإيقاع الموسيقي في السورة كذلك!
وهو متقارب سريع. وهو مع سرعته شاخص متحرك ، مكتمل السمات والحركات : هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة كأنهم جراد منتشر (ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور المنظر المعروض) وهذه الجموع خاشعة أبصارها من الذل والهول ، وهي تسرع في سيرها نحو الداعي ، الذي يدعوها لأمر غريب نكير شديد لا تعرفه ولا تطمئن إليه .. وفي أثناء هذا التجمع والخشوع والإسراع يقول الكافرون : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) .. وهي قولة المكروب المجهود ، الذي يخرج ليواجه الأمر الصعيب الرعيب!»(١)
فهذا هو اليوم الذي اقترب ، وهم عنه معرضون ، وبه يكذبون. فتول عنهم يوم يجيء ، ودعهم لمصيرهم فيه وهو هذا المصير الرعيب المخيف!
* * *
وبعد هذا الإيقاع العنيف في مطلع السورة ؛ والمشهد المكروب الذي يشمل المكذبين في يوم القيامة .. يأخذ في عرض مشاهد التنكيل والتعذيب الذي أصاب بالفعل أجيال المكذبين قبلهم ، وعرض مصارع الأمم التي سلكت من قبل مسلكهم ، بادئا بقوم نوح :
كذبت قبلهم قوم نوح ، فكذبوا عبدنا وقالوا : مجنون وازدجر .. فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الأرض عيونا ، فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ولقد تركناها آية فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابي ونذر؟ ولقد يسرنا القرآن للذكر ، فهل من مدكر؟» ..
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) .. بالرسالة وبالآيات (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) .. نوحا (وَقالُوا : مَجْنُونٌ) .. كما قالت : قريش ظالمة عن محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهددوه بالرجم ، وآذوه بالسخرية ، وطالبوه أن يكف عنهم ونهروه بعنف : (وَازْدُجِرَ) .. بدلا من أن ينزجروا هم ويرعووا!
عندئذ عاد نوح إلى ربه الذي أرسله وكلفه مهمة التبليغ. عاد لينهي إليه ما انتهى إليه أمره مع قومه ، وما
__________________
(١) مأخوذ بتصرف خفيف عن كتاب «مشاهد القيامة في القرآن» «دار الشروق»