ولقد كان كما صوره القرآن. كان عذابا مدمرا جبارا. وكان نذيرا صادقا بهذا العذاب.
وهذا هو القرآن حاضرا ، سهل التناول ، ميسر الإدراك ، فيه جاذبية ليقرأ ويتدبر. فيه جاذبية الصدق والبساطة ، وموافقة الفطرة ، واستجاشة الطبع ، لا تنفد عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد. وكلما تدبره القلب عاد منه بزاد جديد. وكلما صحبته النفس زادت له ألفة وبه أنسا :
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) ..
وهذا هو التعقيب الذي يتكرر ، بعد كل مشهد يصور .. ويقف السياق عنده بالقلب البشري يدعوه دعوة هادئة إلى التذكر والتدبر ، بعد أن يعرض عليه حلقة من العذاب الأليم الذي حل بالمكذبين.
* * *
(كَذَّبَتْ عادٌ ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) ..
وهذه هي الحلقة الثانية ، أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف ؛ والمصرع الذي يقف عليه بعد وقفته على مصرع قوم نوح. أول المهلكين.
يبدؤه بالإخبار عن تكذيب عاد. وقبل أن يكمل الآية يسأل سؤال التعجيب والتهويل : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) .. كيف كان بعد تكذيب عاد؟ ثم يجيب ..
كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب :
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) .. والريح الصرصر : الباردة العنيفة. وجرس اللفظ يصور نوع الريح. والنحس : الشؤم. وأي نحس يصيب قوما أشد مما أصاب عاد. والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم. فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها؟!
والمشهد مفزع مخيف ، وعاصف عنيف. والريح التي أرسلت على عاد «هي من جند الله» وهي قوة من قوى هذا الكون ، من خلق الله ، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره ؛ وهو يسلطها على من يشاء ، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس ، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني ، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله. صاحب الأمر وصاحب الناموس :
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) ..
يكررها بعد عرض المشهد. والمشهد هو الجواب!
ثم يختم الحلقة بالتعقيب المكرر في السورة وفق نسقها الخاص :
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) ..
* * *
ثم يمضي إلى المشهد التالي في السياق وفي التاريخ :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا : أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ. سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ).