وهكذا يقفهم القرآن وجها لوجه أمام حقيقة دعواهم ومآلها في الدنيا والآخرة. بعد ما وقفهم أمام الحقيقة الكونية التي تنكر هذه الدعوى وترفضها. وفي كلتا الحالتين تبرز الحقيقة الثابتة. حقيقة الوحدانية التي ينطق بها كتاب الوجود ، وتوجبها مصلحة المشركين أنفسهم ، ويلزمهم بها النظر إلى مآلهم في الدنيا والآخرة.
وإذا كان القرآن يندد بضلال من يدعون من دون الله آلهة لا يستجيبون لهم إلى يوم القيامة ؛ وكان هذا يعني المعبودات التاريخية التي عرفتها الجماعات البشرية عند نزول هذا القرآن ، فإن النص أوسع مدلولا وأطول أمدا من ذلك الواقع التاريخي. فمن أضل ممن يدعو من دون الله أحدا في أي زمان وفي أي مكان؟ وكل أحد ـ كائنا من كان ـ لا يستجيب بشيء لمن يدعوه ، ولا يملك أن يستجيب. وليس هناك إلا الله فعال لما يريد .. إن الشرك ليس مقصورا على صوره الساذجة التي عرفها المشركون القدامى. فكم من مشركين يشركون مع الله ذوي سلطان ، أو ذوي جاه ، أو ذوي مال ؛ ويرجون فيهم ، ويتوجهون إليهم بالدعاء. وكلهم أعجز من أن يستجيبوا لدعاتهم استجابة حقيقية. وكلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. ودعاؤهم شرك. والرجاء فيهم شرك .. والخوف منهم شرك. ولكنه شرك خفي يزاوله الكثيرون ، وهم لا يشعرون.
* * *
ثم يمضي السياق يتحدث عن موقفهم من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وما جاءهم به من الحق. بعد ما تحدث عن واقعهم وتهافت عقيدة الشرك. ويقرر قضية الوحي كما قرر قضية التوحيد :
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ؟ قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ. قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ. وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً ، وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا ، لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) ..
يبدأ الحديث عن قضية الوحي بترذيل مقولتهم عنه ، واستنكار استقبالهم له ، وهو آيات (بَيِّناتٍ) لا لبس فيها ولا غموض ، ولا شبهة فيها ولا ريبة. ثم إنه «الحق» الذي لا مرية فيه. وهم يقولون لتلك الآيات ولهذا الحق (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) .. وشتان بين الحق والسحر. وهما لا يختلطان ولا يشتبهان.
وهكذا يبدأ الهجوم منذ البدء على تقولهم الظالم وادعائهم القبيح ، الذي لا يستند إلى شبهة ولا ظل من دليل.
ثم يرتقي في إنكار مقولتهم الأخرى .. (افْتَراهُ) .. فلا يسوقها في صيغة الخبر بل في صيغة الاستفهام. كأن هذا القول لا يمكن أن يقال ، وبعيد أن يقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ؟) ..
فيبلغ بهم التطاول أن يقولوا هذه المقولة التي لا تخطر على بال؟!
ويلقن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يرد عليهم بأدب النبوة ، الذي ينم عن حقيقة شعوره بربه ، وشعوره بوظيفته ، وشعوره بحقيقة القوى والقيم في هذا الوجود كله :
(قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..