الذي لا يقبل الجدل والمغالطة ـ إلا مراء ومحالا ـ والذي يخاطب الفطرة بمنطقها ، بما بينه وبين الفطرة من صلة ذاتية خفية ، يصعب التغلب عليها ومغالطتها.
(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟) ..
ولن يملك إنسان أن يزعم أن تلك المعبودات ـ سواء كانت حجرا أم شجرا أم جنا أم ملائكة أم غيرها ـ قد خلقت من الأرض شيئا ، أو خلقت في الأرض شيئا. إن منطق الفطرة. منطق الواقع. يصيح في وجه أي ادعاء من هذا القبيل.
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟) ..
ولن يملك إنسان كذلك أن يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السماوات أو في ملكيتها. ونظرة إلى السماوات توقع في القلب الإحساس بعظمة الخالق ، والشعور بوحدانيته ؛ وتنفض عنه الانحرافات والترهات .. والله منزل هذا القرآن يعلم أثر النظر في الكون على قلوب البشر ؛ ومن ثم يوجههم إلى كتاب الكون ليتدبروه ويستشهدوه ويستمعوا إلى إيقاعاته المباشرة في القلوب.
ثم يأخذ الطريق على ما قد يطرأ على بعض النفوس من انحراف بعيد. فقد يصل بها هذا الانحراف إلى أن تزعم هذا الزعم أو ذاك بلا حجة ولا دليل. يأخذ عليها الطريق ، فيطالبها بالحجة والدليل ؛ ويعلمها في الوقت ذاته طريقة الاستدلال الصحيح ؛ ويأخذها بالمنهج السليم في النظر والحكم والتقدير :
(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
فإما كتاب من عند الله صادق. وإما بقية من علم مستيقن ثابت. وكل الكتب المنزلة قبل القرآن تشهد بوحدانية الخالق المبدع المدبر المقدر ؛ وليس فيها من كتاب يقر خرافة الآلهة المتعددة ، أو يقول بأن لها في الأرض خلقا أو في السماوات شركا! وليس هنالك من علم ثابت يؤيد مثل ذلك الزعم المتهافت.
وهكذا يواجههم القرآن بشهادة هذا الكون. وهي شهادة حاسمة جازمة. ويأخذ عليهم طريق الادعاء بلا بينة. ويعلمهم منهج البحث الصحيح. في آية واحدة قليلة الكلمات ، واسعة المدى ، قوية الإيقاع ، حاسمة الدليل.
ثم يأخذ بهم إلى نظرة موضوعية في حقيقة هذه الآلهة المدعاة ، منددا بضلالهم في اتخاذها ، وهي لا تستجيب لهم ، ولا تشعر بدعائهم في الدنيا ؛ ثم هي تخاصمهم يوم القيامة ، وتنكر دعواهم في عبادتها :
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ؟ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) ..
وقد كان بعضهم يتخذ الأصنام آلهة. إما لذاتها وإما باعتبارها تماثيل للملائكة. وبعضهم يتخذ الأشجار ، وبعضهم يتخذ الملائكة مباشرة أو الشيطان .. وكلها لا تستجيب لداعيها أصلا. أو لا تستجيب له استجابة نافعة. فالأحجار والأشجار لا تستجيب. والملائكة لا يستجيبون للمشركين. والشياطين لا تستجيب إلا بالوسوسة والإضلال. ثم إذا كان يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم ، تبرأ هؤلاء وهؤلاء من عبادهم الضالين. حتى الشيطان كما جاء في سورة أخرى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ..