قل لهم : كيف أفتريه؟ ولحساب من أفتريه؟ ولأي هدف أفتريه؟ أأفتريه لتؤمنوا بي وتتبعوني؟ ولكن : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) .. وهو آخذني بما افتريت. فماذا يجديني أن تكونوا معي وأن تتبعوني. وأنتم أعجز من أن تحموني من الله حين يأخذني بافترائي ، وأضعف من أن تنصروني؟!
وهو الرد اللائق بنبي ، يتلقى من ربه ، ولا يرى في الوجود غيره ، ولا يعرف قوة غير قوته ، وهو رد كذلك منطقي يدركه المخاطبون به لو حكموا عقولهم فيه. يجيبهم به ، ثم يترك أمرهم لله : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) .. من القول والفعل. وهو يجزيكم بما يعلمه من أمركم. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) .. يشهد ويقضي ، وفي شهادته الكفاية وفي قضائه. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .. وقد يرأف بكم ، فيهديكم رحمة منه ، ويغفر لكم ما كان من ضلالكم قبل الهدى والإيمان ..
رد فيه تحذير وترهيب. وفيه إطماع وتحضيض. يأخذ على القلب مسالكه ، ويلمس أوتاره. ويشعر السامعين أن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة ، وادعاءاتهم العابثة. وأنه في ضمير الداعية أكبر وأعمق مما يشعرون. ويمضي معهم في مناقشة القضية ـ قضية الوحي ـ من زاوية أخرى واقعية مشهودة. فماذا ينكرون من أمر الوحي والرسالة ؛ ولم يعجلون بتهمة السحر أو تهمة الافتراء؟ وليس في الأمر غريب ولا عجيب :
(قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ. وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. إنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليس أول رسول. فقد سبقته الرسل. وأمره كأمرهم. وما كان بدعا من الرسل. بشر يعلم الله أنه أهل للرسالة فيوحي إليه ، فيصدع بما يؤمر. هذا هو جوهر الرسالة وطبيعتها .. والرسول حين يتصل قلبه لا يسأل ربه دليلا ، ولا يطلب لنفسه اختصاصا. إنما يمضي في سبيله ، يبلغ رسالة ربه ، حسبما أوحى بها إليه : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) .. فهو لا يمضي في رسالته لأنه يعلم الغيب ؛ أو لأنه يطلع على ما يكون من شأنه وشأن قومه وشأن الرسالة التي يبشر بها. إنما هو يمضي وفق الإشارة وحسب التوجيه. واثقا بربه ، مستسلما لإرادته ، مطيعا لتوجيهه ، يضع خطاه حيث قادها الله. والغيب أمامه مجهول ، سره عند ربه. وهو لا يتطلع إلى السر من وراء الستر لأن قلبه مطمئن ، ولأن أدبه مع ربه ينهاه عن التطلع لغير ما فتح له. فهو واقف أبدا عند حدوده وحدود وظيفته : (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
وإنه لأدب الواصلين ، وإنها لطمأنينة العارفين ، يتأسون فيها برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيمضون في دعوتهم لله. لا لأنهم يعرفون مآلها ، أو يعلمون مستقبلها. أو يملكون فيها قليلا أو كثيرا. ولكن لأن هذا واجبهم وكفى. وما يطلبون من ربهم برهانا فبرهانهم في قلوبهم. وما يطلبون لأنفسهم خصوصية فخصوصيتهم أنه اختارهم. وما يتجاوزون الخط الدقيق الذي خطه لهم ، ورسم لهم فيه مواقع أقدامهم على طول الطريق. ثم يواجههم بشاهد قريب ، لشهادته قيمتها ، لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل :
(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..
وقد تكون هذه واقعة حال ، ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل ، عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله ، بحكم معرفته لطبيعة التوراة. فآمن. وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام. لو لا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة. وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيدا لنزولها في شأن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ. كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه.
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها. فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي.