وهنا ينتهي بموكب الكون كله إلى الهدف الأخير :
(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ..
فهي عملية دائمة التكرار فيما حولهم ، مألوفة لهم ؛ ولكنهم لا ينتبهون إليها ولا يلحظونها قبل الاعتراض والتعجيب .. كذلك الخروج .. على هذه الوتيرة ، وبهذه السهولة .. الآن يقولها وقد حشد لها من الإيقاعات الكونية على القلب البشري ذلك الحشد الطويل الجميل المؤثر الموحي لكل قلب منيب .. وكذلك يعالج القلوب خالق القلوب ..
* * *
ثم يعقب بعرض صفحات من كتاب التاريخ البشري بعد عرض تلك الصفحات من كتاب الكون ، تنطق بمآل المكذبين الذين ماروا كما يماري هؤلاء المشركون في قضية البعث ، وكذبوا كما يكذبون بالرسل ، فحق عليهم وعيد الله الذي لا مفر منه ولا محيد :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ..
والرس : البئر : المطوية غير المبنية. والأيكة : الشجر الملتف الكثيف. وأصحاب الأيكة هم ـ في الغالب ـ قوم شعيب. أما أصحاب الرس فلا بيان عنهم غير هذه الإشارة. وكذلك قوم تبع. وتبع لقب لملوك حمير باليمن. وبقية الأقوام المشار إليهم هنا معروفون لقارئ القرآن.
وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام. ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين. حين كذبوا الرسل. والذي يلفت النظر هو النص على أن كلا منهم كذب الرسل : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ). وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة. فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين ؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون. والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان ، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها ، وصورة منها. ومن يمس منها فرعا فقد مس الأصل وسائر الفروع .. (فَحَقَّ وَعِيدِ) ونالهم ما يعرف السامعون!
وفي ظل هذه المصارع يعود إلى القضية التي بها يكذبون. قضية البعث من جديد. فيسأل : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟) .. والخلق شاهد حاضر فلا حاجة إلى جواب! (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) .. غير ناظرين إلى شهادة الخلق الأول الموجود! فماذا يستحق من يكذب وأمامه ذلك الشاهد المشهود؟!
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ .. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ. قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ. ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا