بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ. هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ..
* * *
وهذا هو المقطع الثاني في السورة : استطراد مع قضية البعث ، التي عالجها الشوط الأول ؛ وعلاج للقلوب المكذبة بلمسات جديدة ، ولكنها رهيبة مخيفة. إنها تلك الرقابة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. ومشاهدها التي تمثلها وتشخصها. ثم مشهد الموت وسكراته. ثم مشهد الحساب وعرض السجلات. ثم مشهد جهنم فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها البشري تقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟). وإلى جواره مشهد الجنة والنعيم والتكريم.
إنها رحلة واحدة تبدأ من الميلاد ، وتمر بالموت ، وتنتهي بالبعث والحساب. رحلة واحدة متصلة بلا توقف ؛ ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد ؛ وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملص ولا يتفلت ، وتحت رقابته التي لا تفتر ولا تغفل. وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة. وكيف بإنسان في قبضة الجبار ، المطلع على ذات الصدور؟ وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان ، الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام!
إنه ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه ، حين يشعر أن السلطان في الأرض يتتبعه بجواسيسه وعيونه ، ويراقبه في حركته وسكونه. وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا الحركة الظاهرة. وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره ، وإذا أغلق عليه بابه ، أو إذا أغلق فمه! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار. وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار .. فكيف؟ كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة؟!
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ، وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ..
إن ابتداء الآية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) .. يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة. فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها. وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشئ مادتها ، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها. فكيف بالمنشئ الموجد الخالق؟ إن الإنسان خارج من يد الله أصلا ؛ فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره ..
(وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) .. وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر ، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله ، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده!
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .. الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة ، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها. بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة.