التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها «علمية» في هذا الزمان. فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه. فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون ؛ وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير. وكل معرفة بنجم من النجوم ، أو فلك من الأفلاك ، أو خاصة من خواص النبات والحيوان ، أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة ـ إذا كانت هناك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود! ـ كل معرفة «علمية» يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري ، وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون ، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء. وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه .. وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر ، هي معرفة ناقصة ، أو علم زائف ، أو بحث عقيم!
إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح ، الذي يقرأ بكل لغة ، ويدرك بكل وسيلة ؛ ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ ، والمتحضر ساكن العمائر والقصور. كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده ، فيجد فيه زادا من الحق ، حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق. وهو قائم مفتوح في كل آن : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .. ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين. لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة «المنهج العلمي». المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه!
والمنهج الإيماني لا ينقص شيئا من ثمار «المنهج العلمي» في إدراك الحقائق المفردة. ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض ، وردها إلى الحقائق الكبرى ، ووصل القلب البشري بها ، أي وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود ، وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم ؛ لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق ..
وبعد هذه اللفتة يمضي في عرض صفحات الحق في كتاب الكون ـ في طريقه إلى قضية الإحياء والبعث :
(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ الْخُرُوجُ) ..
والماء النازل من السماء آية تحيي موات القلوب قبل أن تحيي موات الأرض. ومشهده ذو أثر خاص في القلب لا شك فيه. وليس الأطفال وحدهم هم الذين يفرحون بالمطر ويطيرون له خفافا. فقلوب الكبار الحساسين تستروح هذا المشهد وتصفق له كقلوب الأطفال الأبرياء ، القريبي العهد بالفطرة!
ويصف الماء هنا بالبركة ، ويجعله في يد الله سببا لإنبات جنات الفاكهة وحب الحصيد ـ وهو النبات المحصود ـ ومما ينبته به النخل. ويصفها بالسموق والجمال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) .. وزيادة هذا الوصف للطلع مقصودة لإبراز جمال الطلع المنضد في النخل الباسق. وذلك تمشيا مع جو الحق وظلاله. الحق السامق الجميل.
ويلمس القلوب وهو يمتن عليها بالماء والجنات والحب والنخل والطلع : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) .. رزقا يسوق الله سببه ، ويتولى نبته ، ويطلع ثمره ، للعباد ، وهو المولى ، وهم لا يقدرون ولا يشكرون!