وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ..
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ..
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار ، فيقرون بما كانوا ينكرون ، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين!
وتختم السورة بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قصير يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ. بَلاغٌ. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) ..
والآن نأخذ في تفصيل هذه الأشواط ..
* * *
(حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) ..
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم ، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر ، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده ، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده. كتاب هذا الكون الذي تراه العيون ، وتقرؤه القلوب.
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير. فتنزيل الكتاب (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة. وخلق السماوات والأرض وما بينهما متلبس بالحق : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) .. وبالتقدير الدقيق : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تتحقق فيه حكمة الله من خلقه ، ويتم فيه ما قدره له من غاية.
وكلا الكتابين مفتوح ، معروض على الأسماع والأنظار ، ينطق بقدرة الله ، ويشهد بحكمته ، ويشي بتدبيره وتقديره ، ويدل كتاب الكون على صدق الكتاب المتلو ، وما فيه من إنذار وتبشير .. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) .. وهذا هو العجب المستنكر في ظل تلك الإشارة إلى الكتاب المنزل والكتاب المنظور!
والكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد لا يتعدد ، وأنه رب كل شيء ، بما أنه خالق كل شيء ، ومدبر كل شيء ، ومقدر كل شيء. وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها ؛ فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحدانية الصانع المقدر المدبر ، الذي يصنع على علم ، ويبدع على معرفة ، وطابع الصنعة واحد في كل ما يصنع وما يبدع. فأنى يتخذ الناس آلهة من دونه؟ وما ذا صنع هؤلاء الآلهة وما ذا أبدعوا؟ وهذا هو الكون قائما معروضا على الأنظار والقلوب ؛ فما ذا لهم فيه؟ وأي قسم من أقسامه أنشئوه؟
(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا ، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ..
وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله ، صلىاللهعليهوسلم ، ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح. الكتاب