ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقولهم له : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) .. وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه. ويلقن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يزد عليهم الرد اللائق بالنبوة ، النابع من مخافة الله وتقواه ، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة : (قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً. هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ. كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى ـ عليهالسلام ـ : (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) .. ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) .. ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ : هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ!).
ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) ..
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ..
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة. ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهم. ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار. فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تائب ضارع مستسلم منيب : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ، وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) .. وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) ..
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ، فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ..
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عند ما كذبوا بالنذير. ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم ، التي توقعوا فيها الري والحياة ؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا : هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ، رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها ، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) .. ويلمس قلوبهم بهذا المصرع ، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ. إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم. لعلهم يتأثرون ويرجعون ..
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم الله لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة ، والشهادة له بأنه الحق : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ..