البصيرة ما يجعله موطن الرحمة الربانية في دنياه ، والنعمة الباقية في أخراه ، ولعل هذا نفهمه من قول الله جل جلاله : «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».
* *
وما دام القرآن المجيد هو كتاب الإيجاز والإعجاز فليس من شأنه أن يتحدث الحديث التفصيلي عن كل صغيرة وكبيرة في الأخلاق ، وإنما هو يضع أمام المؤمن علامات الطريق وإشارات التوفيق ، ويترك لنظره وتدبره حسن الاستنباط وواسع الإدراك ، ومن هنا جاءت في القرآن الكريم آيات قصيرات بألفاظها ، واسعات فسيحات بمفاهيمها ومضامينها ، مثل قوله تبارك وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وقوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
ومع ذلك خص القرآن الكريم طائفة من الأخلاق بتوسيع في الحديث عنها ، وتأكيد في الحث عليها ، كما سنرى في فصول هذا الكتاب ، وبذلك جمع القرآن بين الإيجاز وسعة البيان ، وإن كان الإيجاز فيه أكثر وأغلب.
ولقد اهتدى علماء الأخلاق بهذا الهدي القرآني ، فمنهم من فصّل الحديث عن كل خلق من مكارم الأخلاق ، بل قسّم الخلق الواحد إلى عدة أخلاق ، كما نشهد الغزالي يفعل ذلك في كتابه «إحياء علوم الدين» في كثير من الأحيان ، ومنهم من أجمل الحديث أحيانا عن الأخلاق ، فعاد بها إلى عدد قليل من أمهات الفضائل ، كما فعل ابن القيم مثلا في كتابه «مدارج السالكين» حين نراه يقول :
«وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان ، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها :
الصبر والعفة والشجاعة والعدل. فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى ، والحلم والأناة والرفق ، وعدم الطيش والعجلة.