وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام (أي الحصون).
وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم. وكان قد وادع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ عن قومه ، وعاقده على ذلك وعاهده .. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (أي ما زال يروضه ويخاتله) حتى سمح له ـ على أن أعطاه عهدا وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب ابن أسد عهده ، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم.
وعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ؛ وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث : يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة من العدو ـ وذلك عن ملأ من رجال قومه ـ فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا ، فإنها خارج من المدينة.
فأقام رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر. لم تكن بينه وبينهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف ـ وهما قائدا غطفان ـ فأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه (١) ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة ؛ ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عبادة (سيد الخزرج) فذكر ذلك لهما. واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمرا تحبه فنصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال : «بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما». فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا.
وأقام رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم (٢).
__________________
(١) وكان اليهود قد وعدوهم ثمر خيبر سنة إن نصروهم (عن إمتاع الأسماع للمقريزي)
(٢) قالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف : المريسيع ، وخيبر ، وكنا بالحديبية ، وفي الفتح ، وحنين. لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة ، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري ، فالمدينة تحرس حتى الصباح ، نسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفا. حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا.