فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر ، أو يغضب لشأن مثير ، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!
وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع ، أدب الاستئذان ؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة ، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات ؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات ، يدبرها الشيطان ، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية ، والقلوب الناصحة ، هنا أو هناك!
ولقد وعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام.
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي ـ بإسناده ـ عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال : زارنا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في منزلنا فقال : «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا. قال قيس : فقلت : ألا تأذن لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ؟ فقال : دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «السلام عليكم ورحمة الله». فرد سعد ردا خفيا. ثم قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «السلام عليكم ورحمة الله». ثم رجع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأتبعه سعد فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام ـ فقال : فانصرف معه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأمر له سعد بغسل فاغتسل ؛ ثم ناوله خميصة (١) مصبوغة بزعفران أو ورس ، فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يديه ، وهو يقول : «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» ... إلخ الحديث.
وأخرج أبو داود ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ؛ ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : «السلام عليكم. السلام عليكم». ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.
وروى أبو داود كذلك ـ بإسناده ـ عن هذيل قال : جاء رجل ـ قال عثمان : سعد ـ فوقف على باب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يستأذن. فقام على الباب ـ قال عثمان : مستقبل الباب ـ فقال له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر».
وفي الصحيحين عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه قال : «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن ، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
وروى أبو داود ـ بإسناده ـ عن ربعي قال : أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو في بيته فقال : أألج؟ فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لخادمه : «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم. أأدخل؟» فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فدخل.
وقال هشيم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء ؛ فأتى فسطاط امرأة
__________________
(١) لخميصة : ثوب خز أو صوف معلم.