والذين لا يعرفون الله سبحانه ، ولا يقدرونه حق قدره ، يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة. فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقا من مخلوقات هذه الأرض. ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون. قالوا : إنه ليس من «المعقول»! أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد ؛ فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون! وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة ، وأن الكون من حوله معاد لنشأته ونشأة الحياة جملة! .. وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة! وحقا لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض ، ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها! لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل ؛ ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره ، والتنسيق بين جميع الأشياء فيه .. غير أن الله ـ سبحانه ـ هو الله! هو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. هو صاحب هذا الملك الكبير الذي لا يقوم شيء منه إلا برعايته ؛ كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته .. إنما آفة هذا الإنسان ، حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه ـ ولو كان يسميه علما! ـ أن ينسى أنه الله. ويتصوره ـ سبحانه ـ على هواه! ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة! ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة!
يقول سير جيمس جينز ـ كمثل على التصورات البشرية الضالة الكثيرة ـ في كتاب : «الكون الغامض» : «ونحن إذ نقف على أرضنا ـ تلك الحبيبة الرملية المتناهية في الصغر ـ نحاول أن نكشف عن طبيعة الكون الذي يحيط بموطننا في الفضاء والزمن ، وعن الغرض من وجوده ، نحس في أول الأمر بما يشبه الذعر والهلع. وكيف لا يكون الكون مخيفا مرعبا ، وهذه أبعاده هائلة لا تستطيع عقولنا إدراك مداها؟ وقد مرت عليه أحقاب طويلة لا يمكن تصورها؟ ويتضاءل إلى جانبها تاريخ الإنسان حتى يبدو وكأنه لمح البصر؟ .. وهو مخيف مرعب لما نشعر به من وحدة مرهوبة ، وما نعلمه من ضآلة موطننا في الفضاء. ذلك الموطن الذي لا يزيد على جزء من مليون جزء من إحدى حبيبات الرمال التي في بحار العالم! .. ولكن أخوف ما يخاف العالم من أجله : أنه لا يعنى ـ كما يلوح ـ بحياة مثل حياتنا. وكأن عواطفنا ومطامعنا وأعمالنا وفنوننا وأدياننا كلها غريبة عن نظامه وخطته. وقد يكون من الحق أن نقول : إن بينه وبين حياة كحياتنا عداء قويا. ذلك بأن الفضاء في أكثر أجزائه بارد إلى حد تتجمد فيه كل أنواع الحياة .. كما أن أكثر المادة التي في الفضاء تبلغ من الحرارة حدا يجعل الحياة فيه مستحيلة ؛ وأن الفضاء تذرعه إشعاعات مختلفة الأنواع ، لا تنفك تصدم ما فيه من أجرام فلكية ؛ وقد يكون كثير من هذه الإشعاعات معاديا للحياة أو مبيدا لها.
«هذا هو الكون الذي ألقت بنا فيه الظروف. وإذا لم يكن حقا أن ظهورنا حدث بسبب غلطة وقعت فيه ، فلا أقل من أن يكون نتيجة لما يصح أن يوصف بحق أنه مصادفة!».
وقد بينا من قبل أن افتراض عداء الكون لنشأة الحياة مع افتراض عدم وجود تقدير وتدبير من قوة مهيمنة .. ثم وجود الحياة بعد ذلك فعلا .. أمور لا يتصورها عقل عاقل! فضلا على أن يكون عقل عالم! وإلا فكيف أمكن ظهور الحياة في الكون المعادي لها مع افتراض عدم وجود قوة مهيمنة مقدّرة! هل الحياة أقوى من الكون بحيث تظهر رغم أنفه؟! ورغم عدائه لها بطبيعة تكوينه؟! هل هذا الكائن الإنساني مثلا ـ قبل أن ينشأ ـ أقوى من هذا الكون الموجود فعلا ، ومن ثم طلع هكذا في الكون ، وأنف الكون راغم؟! إنها تصورات لا تستحق عناء النظر! ولو أن هؤلاء «العلماء» يكتفون بأن يقولوا لنا فقط ما تصل إليه وسائلهم من وصف الموجودات ، دون أن يدخلوا في أمثال هذه التخرصات «الميتافيزيقية» التي لا تستند على