(قالا : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
إنها خصيصة «الإنسان» التي تصله بربه ، وتفتح له الأبواب إليه .. الاعتراف ، والندم ، والاستغفار ، والشعور بالضعف ، والاستعانة به ، وطلب رحمته. مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته .. وإلا كان من الخاسرين ..
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد ـ بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة ـ لمزاولة اختصاصه في الخلافة ؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبدا مع عدوه ..
(قالَ : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ : فِيها تَحْيَوْنَ ، وَفِيها تَمُوتُونَ ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ..
وهبطوا جميعا .. هبطوا إلى هذه الأرض .. ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟ .. هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده .. وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة. وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم و «علمهم» الظني هو تبجح. فهذا «العلم» يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة. ويتبجح حين ينفي الغيب كله ، والغيب محيط به في كل جانب ، والمجهول في «المادة» التي هي مجاله أكثر كثيرا من المعلومات (١)!
لقد هبطوا جميعا إلى الأرض .. آدم وزوجه ، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضا ، وليعادي بعضهم بعضا ؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين : إحداهما ممحضة للشر ، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر ؛ وليتم الابتلاء ، ويجري قدر الله بما شاء.
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض ؛ ويمكنوا فيها ، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا ؛ ثم يخرجوا منها فيبعثوا .. ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره ، في نهاية الرحلة الكبرى ..
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات ، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه. وينهزم فيها ما تولى عدوه.
* * *
وبعد فإنها ليست قصة! إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته ، والعوالم المحيطة به ، والقدر الذي يصرف حياته ، والمنهج الذي يرضاه الله له ، والابتلاء الذي يصادفه ، والمصير الذي ينتظره .. وكلها حقائق تشارك في تقرير «مقومات التصور الإسلامي» ..
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال ، ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» ..
* إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية ، هي ـ كما قلنا من قبل ـ التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني. والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان ؛ والذي يجعل هذه النشأة قدرا مرسوما لا فلتة عارضة ، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة.
__________________
(١) يراجع في الجزء السابع تفسير قوله تعالى : «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» .. ص ١١١١ ـ ١١٢١