أساس ، لأدوا دورهم ـ ولو ناقصا ـ في تعريف الناس بالكون من حولهم! ولكنهم يتجاوزون دائرة المعرفة المأمونة إلى تيه الفروض والظنون ، بلا دليل إلا الهوى الإنساني الصغير!
ونحن ـ بحمد الله وبهداه ـ ننظر إلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه سير جيمس جينز! إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارئ هذا الكون ؛ ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه ؛ ونشعر بالطمأنينة والأنس ، لهذا الكون الصديق ، الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق .. وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته ؛ ولكننا لا نفزع ولا نجزع ، ولا نشعر بالضياع ، ولا نتوقع الهلاك .. فإن ربنا وربه الله .. ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة ؛ ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا .. ونرجو أن نكون من الشاكرين :
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ. قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ..
* والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية : هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية ؛ وضخامة دوره المنوط به ؛ وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها ؛ وتنوع العوالم التي يتعامل معها ـ في حدود عبوديته لله وحده ـ مما يتناقض تماما مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدر قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون ، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية. ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل خصائصه الإنسانية المتميزة ؛ أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقا في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه! .. إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد ، لا تجعل من الإنسان «إلها» كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول (١). إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم.
لقد أعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد ، الذي نرجح من مجموعة النصوص القرآنية ـ ولا نجزم ـ أن نشأته كانت مستقلة ـ أعلن هذا الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى. وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله .. وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه ؛ وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيدا وإعدادا لهذه الخلافة. كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة ، أن الله جعل هذا الكون ـ لا الأرض وحدها ـ عونا له في هذه الخلافة. وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ..
وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له. فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه ـ أيا كان حجم هذا الكوكب ـ إنها لأمر عظيم!
والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها ، ولكن في الكون كله. فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لا يعلمه إلا الله من الخلق ؛ لها وظائف أخرى ، كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف. وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه. يدل على ذلك قول الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ، وَحَمَلَهَا الْإِنْس انُ ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) .. وإذن فهو متفرد في الكون كله بخصائص .. ومنها الظلم والجهل! إلى جانب الاختيار النسبي والاستعداد للمعرفة المترقية ، والإرادة الذاتية. والمقدرة على العدل والعلم ، بقدر
__________________
(١) يراجع كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الأول. «دار الشروق».