(وَقالَ : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ..
بذلك داعب رغائب «الإنسان» الكامنة .. إنه يجب أن يكون خالدا لا يموت أو معمرا أجلا طويلا كالخلود! ويجب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد ..
وفي قراءة : «ملكين» بكسر اللام. وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) .. وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال : إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلا بعد جيل ـ وعلى قراءة «ملكين» بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود .. ولكن القراءة الأولى ـ وإن لم تكن هي المشهورة ـ أكثر اتفاقا مع النص القرآني الآخر ، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة.
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة ؛ وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته ؛ فقد استعان على زعزعته ـ إلى جانب مداعبة شهواتهما ـ بتأمينهما من هذه الناحية ؛ فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح ، وفي نصحه صادق :
(وَقاسَمَهُما : إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ..!
ونسي آدم وزوجه ـ تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر ـ أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير! وأن الله أمرهما أمرا عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله ، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه!
نسيا هذا كله ، واندفعا يستجيبان للإغراء!
(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ؛ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ، وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) ..
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة. لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته ، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا :
(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ)!
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت ، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما. فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض «يخصفان» ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما ـ مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها ، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية! (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ، وَأَقُلْ لَكُما : إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ؟) ..
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة .. أما كيف كان النداء وكيف سمعاه ، فهو كما خاطبهما أول مرة. وكما خاطب الملائكة. وكما خاطب إبليس. كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع. وأن الله يفعل ما يشاء.
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد .. إنه ينسى ويخطئ. إن فيه ضعفا يدخل منه الشيطان. إنه لا يلتزم دائما ولا يستقيم دائما .. ولكنه يدرك خطأه ؛ ويعرف زلته ؛ ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة .. إنه يثوب ويتوب ؛ ولا يلح كالشيطان في المعصية ، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية!