الغيب بشيء. وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها ، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجا من جنسه ، فصارا زوجين اثنين ؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .. فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة. وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلا بعد خلق آدم ، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم ..
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه ، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي ، الذي خلق الله له هذا الكائن. وهو دور الخلافة في الأرض ـ كما صرح بذلك في آية البقرة : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ..
(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما ، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ..
ويسكت القرآن عن تحديد «هذه الشجرة». لأن تحديد جنسها لا يريد شيئا في حكمة حظرها. مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود .. لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال ، ووصاهما بالامتناع عن المحظور. ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد ؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات ، فيظل حاكما لها لا محكوما بها كالحيوان ، فهذه هي خاصية «الإنسان» التي يفترق بها عن الحيوان ، ويتحقق بها فيه معنى «الإنسان».
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له ..
إن هذا الكائن المتفرد ؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم ؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب ؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا ؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى .. إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة ؛ مستعد للاتجاهين على السواء. وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها ـ ما لم يلتزم بأمر الله فيها ـ ومن هذه النقط تمكن إصابته ، ويمكن الدخول إليه .. إن له شهوات معينة .. ومن شهواته يمكن أن يقاد (١)!
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات :
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما ؛ وَقالَ : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ، أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ..
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم ؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله ، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه. ولكننا نعلم ـ بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب ـ أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور ؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات. وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان. وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر ؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر ؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير ..
وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما .. فهذا كان هدفه .. لقد كانت لهما سوآت ، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها ـ وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية ، فكأنها عوراتهما ـ ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة :
__________________
(١) راجع «قصة آدم» في كتاب : «منهج الفن الإسلامي» تأليف محمد قطب. «دار الشروق».