وإنزالها به ، بسبب معصيته وتبجحه ؛ بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله ، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه :
(... لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ..
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم ، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه ـ والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حسا ، فالله سبحانه جل عن التحيز ، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله ـ وإنه سيأتي البشر من كل جهة : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) .. للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة .. وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم ، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه ، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب :
(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ..
ويجيء ذكر الشكر ، تنسيقا مع ما سبق في مطلع السورة : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) .. لبيان السبب في قلة الشكر ؛ وكشف الدافع الحقيقي الخفي ، من حيلولة إبليس دونه ، وقعوده على الطريق إليه! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى ؛ وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين!
قد أجيب إبليس إلى ملتمسه. لأن مشيئة الله ـ سبحانه ـ اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه ؛ بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر ؛ وبما وهبه من عقل مرجح ؛ وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل ؛ ومن الضبط والتقويم بهذا الدين. كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية ؛ وأن يصطرع في كيانه الخير والشر ؛ وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين ، فتحق عليه سنة الله وتتحقق مشيئته بالابتلاء. سواء اهتدى أو ضل ، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة ، تحقق الهدى أو الضلال.
ولكن السياق هنا لا يصرح بترخيص الله ـ سبحانه ـ لإبليس ـ عليه اللعنة ـ في إيعاده هذا الأخير ، كما صرح بإجابته في إنظاره. إنما يسكت عنه ، ويعلن طرد إبليس طردا لا معقب عليه. طرده مذموما مقهورا ، وإبعاده بملء جهنم منه وممن يتبعه من البشر ويضل معه :
(قالَ : اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) ..
ومن يتبعه من البشر قد يتبعه في معرفته بالله واعتقاده بألوهيته ، ثم في رفض حاكمية الله وقضائه ، وادعاء أن له الحق في إعادة النظر في أوامر الله ، وفي تحكيم منطقه هو في تنفيذها أو عدم تنفيذها .. كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلا .. وهذا وذلك كلاهما اتباع للشيطان ؛ جزاؤه جهنم مع الشيطان!
لقد جعل الله ـ سبحانه ـ لإبليس وقبيله فرصة الإغواء. وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقا للابتلاء ، الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن ؛ وتجعله به خلقا متفردا في خصائصه ، لا هو ملك ولا هو شيطان. لأن له دورا آخر في هذا الكون ، ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان.
* * *
وينتهي هذا المشهد ، ليتلوه مشهد آخر في السياق :
ينظر الله ـ سبحانه ـ بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة ـ إلى آدم وزوجه .. وهنا فقط نعرف أن له زوجا من جنسه ، لا ندري كيف جاءت. فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا