الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه. وهو يعرف أنه ربه وخالقه ، ومالك أمره وأمر الوجود كله ؛ لا يشك في شيء من هذا كله!
وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله : نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق. ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت .. وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية. وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء. فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله ، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق. وأما الطبيعتان الأخريان ، فسنعرف كيف تتجهان.
(قالَ : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
لقد جعل إبليس له رأيا مع النص. وجعل لنفسه حقا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر .. وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر ، ويبطل التفكر ؛ وتتعين الطاعة ، ويتحتم التنفيذ .. وهذا إبليس ـ لعنه الله ـ لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره .. ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه .. بمنطق من عند نفسه :
(قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ..
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه :
(قالَ : فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ..
إن علمه بالله لم ينفعه ، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه .. وكذلك كل من يتلقى أمر الله ؛ ثم يجعل لنفسه نظرا في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه ؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل ؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية .. إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد. فإبليس لم يكن ينقصه العلم ، ولم يكن ينقصه الاعتقاد!
لقد طرد من الجنة ، وطرد من رحمة الله ، وحقت عليه اللعنة ، وكتب عليه الصغار.
ولكن الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب ؛ ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم. ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تمحضت فيه :
(قالَ : أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ : إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ : فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ..
فهو الإصرار المطلق على الشر ، والتصميم المطلق على الغواية .. وبذلك تتكشف هذه الطبيعة عن خصائصها الأولى .. شر ليس عارضا ولا وقتيا. إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد ..
ثم هو التصوير المشخص للمعاني العقلية والحركات النفسية ، في مشاهد شاخصة حية :
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث. وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلّا بإرادة الله وقدره. ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار ، ولكن إلى (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) كما جاء في السورة الأخرى. وقد وردت الروايات : أنه يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض ـ إلا من شاء الله ـ لا يوم يبعثون ..
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث ـ وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل ـ أنه سيرد على تقدير الله له الغواية