إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها!
على أنه ـ على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور ـ ليس هناك ما يمنع من وجود «أنواع» من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض ؛ بفعل الظروف السائدة في الأرض ، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها ، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة. ولكن هذا لا «يحتم» أن يكون بعضها «متطورا» من بعض .. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا .. لا تستطيع أن تثبت ـ في يقين مقطوع به ـ أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية ـ وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها ـ ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا .. وهذا يمكن تعليله كما قلنا .. بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى فانقرض.
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة ، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع ، وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية.
وتفرد «الإنسان» من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون ـ وفيهم الملحدون بالله كلية ـ للاعتراف به ، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية ، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي (١)!
على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني ؛ في حفل حافل من الملأ الأعلى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا. إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ..
والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم ؛ لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم ـ وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال (٢) ـ وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة. لقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) .. والجن خلق غير الملائكة ، لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره ـ وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضا (٣) ـ وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار. فهو من غير الملائكة قطعا. وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة. في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل ، ميلاد هذا الكائن الفريد ..
فأما الملائكة ـ وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ـ فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله ، لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير .. هذه طبيعتهم ، وهذه خصائصهم : وهذه وظيفتهم .. وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله ، كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله.
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله ـ سبحانه ـ وعصاه. وسنعلم : ما الذي حاك في صدره ، وما التصور
__________________
(١) يراجع بتوسع فصل : «حقيقة الحياة» وفصل «حقيقة الإنسان» في القسم الثاني من : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».
(٢) ص ١٠٤١ ـ ١٠٤٤ الجزء السابع
(٣) ص ١٢٠٨ ـ ١٢٠٩ : الجزء الثامن