أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر ، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون : وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى :
(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).
* * *
بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة .. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب ، في رحاب الملأ الأعلى .. يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم ؛ زيادة في الحفاوة والتكريم. وتحتشد له الملائكة ـ وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس ـ وتشهده السماوات والأرض ؛ وما خلق الله من شيء .. إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود :
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. قالَ : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟ قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. قالَ : فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ. قالَ : أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ : إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. قالَ : فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً ، لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) ..
هذا هو المشهد الأول .. وهو مشهد مثير .. ومشهد خطير .. ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء ؛ ونرجئ التعليق عليها ، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها ..
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) إن الخلق قد يكون معناه : الإنشاء. والتصوير قد يكون معناه : إعطاء الصورة والخصائص .. وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان .. فإن «ثم» قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للترقي المعنوي. والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود. فالوجود يكون للمادة الخامة ؛ ولكن التصوير ـ بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص ـ يكون درجة أرقى من درجات الوجود. فكأنه قال : إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجودا ذا خصائص راقية. وذلك كقوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).
فإن كل شيء أعطي خصائصه ووظائفه وهدي إلى أدائها عند خلقه. ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها. والمعنى لا يختلف إذا كان معنى «هدى» : هداه إلى ربه. فإنه هدي إلى ربه عند خلقه. وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه .. «وثم» .. للترقي في الرتبة ، لا للتراخي في الزمن. كما نرجح.
وعلى أية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليهالسلام ، وفي نشأة الجنس البشري ، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة ، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقيا في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقيا في «وجود» الإنسان. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان. كما تقول الداروينية.
ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا ـ بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء ـ هو مجرد نظرية «ظنية» وليست «يقينية» لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس