هم يشركون به غيره .. ثم يشقون في النهاية بهذا كله .. يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور!
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة .. إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء .. إنه يدب في القلوب فعلا دبيب الشفاء في الجسم المعلول! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب. ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية ، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب. ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية. ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله ، وإلى العدل في الجزاء ، وإلى غلبة الخير ، وإلى حسن المصير ..
وإنها لعبارة تثير حشدا وراء حشد من المعاني والدلائل ، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب!
* * *
لا يشكرون .. والله هو المطلع على السرائر ، المحيط بكل مضمر وظاهر ، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .. هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق ، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ومن معه بأنهم في رعايته وولايته ، لا يضرهم المكذبون ، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون :
(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ، إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ؛ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق :
«وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه (١) ..» شعور مطمئن ومخيف معا ، مؤنس ومرهب معا .. وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه ، شاهد أمره وحاضر شأنه. الله بكل عظمته ، وبكل هيبته ، وبكل جبروته ، وبكل قوته. الله خالق هذا الكون وهو عليه هين. ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان .. الله مع هذا المخلوق البشري. الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها! إنه شعور رهيب. ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن. إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية .. إن الله معها :
(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ..) إنه ليس شمول العلم وحده ، ولكن شمول الرعاية ، ثم شمول الرقابة ..
(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ..)
__________________
(١) تمضون فيه مشغولين به مسرعين فيه.