القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله. بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.
إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتما أن يكون الله هو الرب المعبود ؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله .. ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر ، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض .. والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله ـ سبحانه ـ وبأنه الخالق الرازق ـ كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين!». ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله ـ كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم «المسلمين!» ـ وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق ؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغدا وإلى آخر الزمان. مهما اختلفت الأسماء واللافتات. فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان!
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون ـ كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم «المسلمين» ـ أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله. أو كانوا يقولون عنه : شريعة الله!
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه الله .. وذلك في قوله تعالى : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ، وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) .. فهم كانوا يقولون : إن الله يشاء هذا ، ولا يشاء هذا .. افتراء على الله .. كما أن ناسا اليوم يدعون أنفسهم «مسلمين» يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة الله!
والله يجبههم هنا بالافتراء ، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه :
(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) ..
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعا .. فما ظنهم يا ترى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة!! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية!
(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ..
والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم ؛ وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره ؛ والنواميس التي تحكم هذه المصادر ، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله ، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال .. وكله في الكون وفيهم من رزق الله ..
والله ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور ؛ ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم ؛ الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات ؛ ومشاعر واتجاهات ؛ والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة ؛ كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه (١).
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك .. فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه ؛ وإذا
__________________
(١) يراجع فصل «شريعة كونية» في كتاب : «معالم في الطريق» كما يراجع فصل : «منهج متفرد» من كتاب : «هذا الدين».