ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء ـ ومعها علم الله ـ ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصورا في علم الله .. ويرتعش الوجدان إشفاقا ورهبة ، ويخشع القلب إجلالا وتقوى ، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ؛ ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله.
وفي ظل هذا الأنس ، وفي طمأنينة هذا القرب .. يأتي الإعلان الجاهر :
(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟ وهم أولياء الله ، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ..
كيف يخافون وكيف يحزنون ، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه؟ وعلام يحزنون ومم يخافون ، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل ـ لا تبديل لكلمات الله ـ :
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ..
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى. والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه .. هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله. لا كما يفهمه العوام ، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء!
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو أولى الأولياء ، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين ، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه :
(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً. هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
ويفرد الله بالعزة هنا ، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين ـ كما في الموضع الآخر ـ لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه. فيفرده بالعزة جميعا ـ وهي أصلا لله وحده ، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه ـ ليجرد منها الناس جميعا ، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس. أما الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه. فلا يحزن لما يقولون. والله معه وهو السميع العليم. الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد. وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة ، ومن عصاة وتقاة ، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه :
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ..
وهذه حكمة ذكر «من» هنا لا «ما» لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء. فالسياق جار فيها مجراه.
(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) ..
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة :
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (١) ..
__________________
(١) يخرصون : يحدسون ويخمنون ، ظنا بلا علم ولا يقين.