... «إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
«وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ، ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ، ومن المترددين كذلك والمتهيبين ومن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة ، وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد ..
«نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها .. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة ، وتنص عليها ...».
... «ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنشأتها الحركة الإسلامية ، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق ... من ذلك المجتمع. بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
«إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف ـ وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة ـ قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية وفيهم كارهون للإسلام منافقون ؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ؛ وفيهم المؤلفة قلوبهم دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية ...».
ومن هذه المقتطفات يتضح لنا مركز السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بعد ذلك «بإحسان» يصل بهم إلى مستواهم الإيماني وبلائهم الحركي. وندرك حقيقة دورهم الباقي في بناء الإسلام وترجمته إلى واقع عملي يبقى مؤثرا في التاريخ البشري كله ، كما نستشرف حقيقة قول الله سبحانه فيهم :
(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ..
ورضى الله عنهم هو الرضى الذي تتبعه المثوبة ، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة ؛ ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه سبحانه ، والثقة بقدره ، وحسن الظن بقضائه ، والشكر على نعمائه ، والصبر على ابتلائه .. ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر ، المتبادل الوافر ، الوارد الصادر ، بين الله سبحانه وهذه الصفوة المختارة من عباده ؛ ويرفع من شأن هذه الصفوة ـ من البشر ـ حتى ليبادلون ربهم الرضى ؛ وهو ربهم الأعلى ، وهم عبيده المخلوقون .. وهو حال وشأن وجو لا تملك الألفاظ البشرية أن